مدى إمكانية الطعن في المقررات القضائية المتعلقة بالتطليق
كتبها الدكتور عبد الحكيم الحكماوي
نائب أول لوكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية بالرباط
أستاذ جامعي زائر بكلية الحقوق سلا
باحث
قانوني
من المعلوم أن مدونة الأسرة نصت في المادة 128 على أن : "
المقررات القضائية الصادرة بالتطليق أو بالخلع أو بالفسخ طبقا لأحكام هذا الكتاب ،
تكون غير قابلة لأي طعن في جزئها القاضي بإنهاء العلاقة الزوجية " ، و هذه
المادة حددت النطاق الذي يمكن أن يمارس فيه الأطراف تظلماتهم من الأحكام القضائية
التي تتعلق بانحلال العلاقة الزوجية عن طريق التطليق أو الخلع أو الفسخ .
غير أن أحكام هذه المادة بالقدر الذي تبدو معه واضحة في منع أطراف
الدعوى من ممارسة أي طعن في الشق المتعلق بانحلال العلاقة الزوجية ، فإنها تبقى مع
ذلك منطوية على قدر كبير من الغموض فيما يتعلق بالحق في الطعن . لذلك فإن التساؤل
حول مدى جواز الطعن في الأحكام القضائية القاضية بالتطليق يبقى مشروعا اعتبارا
لكون القاعدة القانونية مهما كانت متسمة بالوضوح فإن ذلك لا يعني أنها كاملة ؛
فطبيعتها النقص باعتبارها إنتاجا بشريا .
و انطلاقا من كون أية قاعدة قانونية لا يمكن العمل بأحكامها منفصلة
عن باقي المقتضيات و إنما بالضرورة عبر اعتبار باقي الأحكام التي تتضمنها قواعد
قانونية أخرى ، فإن قراءة القواعد المؤطرة للحق في الطعن في المقررات القضائية
المتعلقة بالتطليق يجب ألا تتحدد في المادة 128 من مدونة الأسرة فقط و إنما يجب
البحث في مدى إمكانية خضوع ممارسة هذا الحق لأحكام قواعد أخرى .
بداية تبدو القراءة السريعة للمادة المذكورة لا تطرح أي إشكال يذكر
، غير أن حقيقة الواقع بخلاف ذلك . ذلك أن مقتضيات المادة المذكورة تتضمن
عبارات لابد من الوقوف على مضامينها و ارتباطاتها بالأحكام التي تتضمنها
مدونة الأسرة من جهة و بعض القوانين ذات الصلة من جهة أخرى .
و على ذلك يمكن التمثيل لبعض أهم تلك العبارات ب " طبقا
لأحكام هذا الكتاب " ؛ فما المقصود بالأحكام المشار إليها في صلب المادة ؟ و
ما المقصود بعبارة " هذا الكتاب "؟
لا يجادل أحد في أن الأحكام هي ما يستفاد من المقتضيات الشرعية أو
القانونية التي تُستمد من الأدلة الشرعية أو القانونية ، و هي ثمار جهد عقلي مستند
إلى ما وضعه صاحب أو مُصددر أدلة تلك الأحكام . و على ذلك فإن واضع المدونة حدد
لنا المقررات القضائية المتعلقة بالتطليق و غير القابلة للطعن في الشق المتعلق
بانحلال العلاقة الزوجية فقط في المقررات القضائية الصادرة وفق صحيح أحكام الكتاب
الثاني المتعلق بانحلال ميثاق الزوجية و آثاره . و بالتالي فإن إيقاع التطليق عن
طريق المحكمة يجب أن يتم وفق القواعد و الأحكام الواردة في الكتاب الثاني دون غيره
من المقتضيات ، بدليل أن المشرع نفسه حدد هذه المقتضيات بعبارة " هذا الكتاب
" أي أن استعمال المشرع لاسم الإشارة دليل على الحصر و التحديد.
و لكن السؤال يبقى مطروحا حول مدى افتراض التزام المحكمة بأحكام
الكتاب الثاني ؛ و بمعنى آخر هل يمكن تصور إيقاع التطليق من المحكمة مع احتمال
وقوع خطإ في تطبيق القانون ؟
بالرجوع إلى المقتضيات المتضمنة بالكتاب الثاني سنجدها تتعلق بصور
انفصام العلاقة الزوجية، و هي الصور التي أشارت إليها المادة 71 من مدونة الأسرة
التي نصت على أنه : " ينحل عقد الزواج بالوفاة أو الفسخ أو الطلاق أو
التطليق أو الخلع " و من المعلوم أن هذه الصور جاءت على سبيل الحصر باعتبار
القواعد المنظمة للأسرة من النظام العام ، و بالتالي لا يجوز التوسع في صور انحلال
العلاقة الزوجية .
و بالنظر في علاقة المادة 71 من مدونة الأسرة بالمادة 128 من نفس
المدونة سنجد أنهما تتعلقان بصور انحلال العلاقة الزوجية ، غير أن نطاق أحكام
المادة 128 من مدونة الأسرة انحصر في عدم جواز الطعن في المقررات القضائية
المتعلقة بالتطليق و الفسخ و بالخلع .
و إذا كانت الأحكام المتعلقة بالفسخ أو الخلع لا تطرح إشكالات
كبيرة في هذا السياق ، فإن الأمر بخلاف ذلك متى تعلق الأمر بالمقررات القاضية
بالتطليق ؛ ذلك أن صور التطليق وفق أحكام الكتاب الثاني لا تتعلق فقط بالتطليق
الذي تنتج عنه مستحقات انحلال الزوجية ، و إنما تشمل أيضا صور التطليق التي لا
تترتب عنها أية مستحقات . و لذلك فإن تصور واضع أحكام المدونة كان واضحا في حصر
نطاق تطبيق أحكام الفقرة الأولى من المادة 128 من مدونة الأسرة في عدم إمكانية الطعن
في الشق المتعلق بانحلال ميثاق الزوجية ، بغض النظر عن استحقاق أو عدم استحقاق
الزوجة لمستحقاتها . و بمفهوم المخالفة فإن الشق المتعلق بالمستحقات الناتجة
عن التطليق يمكن أن تكون محل طعن .
و تبسيطا
للصورة فإن المقررات القاضية بالتطليق و التي يترتب عنها انحلال ميثاق الزوجية و
كذا مستحقات الزوجة المطلقة يمكن الطعن فيها في الشق المتعلق بهذه المستحقات و لا
تقبل الطعن في الشق المتعلق بانحلال ميثاق الزوجية ، و هذا النوع من المقررات هو
المقصود في المادة 128 .
فهل يمكن تصور الخطأ في تطبيق أحكام الكتاب الثاني ؟
إن عرض النزاع على المحكمة من قبل الأطراف قد لا يخلو من إخلالات
سواء في صورة النزاع أو في طريقة عرضه على القضاء ؛ لذلك فإن المحكمة قد تنظر في
بعض صور النزاعات الزوجية على اعتبار أنها نزاعات تهدف إلى وضع حد للعلاقة الزوجية
من أجل الشقاق و الحال أن حقيقتها منازعة تهدف للتطليق فقط و لو عبر سلوك إجراءات
غير قانونية . و لنضرب لذلك مثلا زوجة تقدمت بطلب تطليق للشقاق من زوجها ، مدعية
أن العشرة الزوجية بينهما أصبحت مستحيلة لذلك فهي ترغب في التطليق منه للشقاق ،
ففي هذه الحالة هل تطلقها المحكمة للشقاق أم لا ؟
إن الجواب
البديهي في هذه الحالة هو الإيجاب ، لكن معطيات النزاع قد لا تكون معروضة على
صورتها الحقيقية ففي مثل هذه الحالة قد نتصور أن يكون الزوج الذي رغبت الزوجة في
التطليق منه غائبا ، فلا سبيل للمحكمة في أن تتعرف على غيابه خاصة و أن الاستدعاء
سيوجه له في بيت الزوجية ، من غير أن يحضر للمحكمة مما سيعتبر بمثابة فشل لمحاولة
الصلح يترتب عنه التطليق للشقاق .
غير أنه بمجرد انتهاء غيبة الزوج الحقيقية و الواقعية ، فإن هذا
الأخير قد يفاجأ بالحكم الصادر عنه من أجل التطليق ، فما الحل خاصة و أن المحكمة
عند بتها في دعوى التطليق للشقاق تكون قد نظرت كذلك في مستحقات الزوجة ؟ فهل تُغل
يد الزوج عن الطعن في الحكم القاضي بالتطليق أم أن حقه هذا يبقى ثابتا ؟
إن الجواب على هذا السؤال ينطلق من فرضية إلزام المحكمة بضرورة
الحكم بمستحقات التطليق وجوبا . فهل المشرع ألزم المحكمة بضرورة تحديد مستحقات
التطليق في جميع الأحوال أم أنه ترك للمحكمة سلطة في ذلك ؟
للتأكد من صحة هذه الفرضية يجب الرجوع لمقتضيات المادة 113 من
مدونة الأسرة التي تنص على أنه: " يبت في دعاوى التطليق المؤسسة على أحد
الأسباب المنصوص عليها في المادة 98 أعلاه ، بعد القيام بمحاولة الإصلاح ،
باستثناء حالة الغيبة ، و في أجل أقصاه ستة أشهر ، ما لم توجد ظروف خاصة. تبت المحكمة أيضا عند الاقتضاء في مستحقات الزوجة و الأطفال المحددة في المادتين 84 و 85 أعلاه ."
إن التمعن في أحكام هذه المادة سيقودنا لا محالة إلى الوقوف على
عدم إلزامية الحكم بالمستحقات عقب كل تطليق ، ذلك أن المشرع عندما استعمل عبارة
" تبت المحكمة أيضا عند الاقتضاء في مستحقات الزوجة " يكون قد
فتح الباب أمام السلطة التقديرية للمحكمة من أجل تحديد ما إذا كانت شروط الحكم
بالمستحقات قد تحققت أم لا ؟
و بالعودة للمثال الذي أسسنا عليه مناقشتنا سنجد أن المدعى عليه /
الطليق ووجه بحكم تطليقه من زوجته من أجل الشقاق ، غير أن حقيقة الأمر هو غيابه و
ليس الشقاق ، كما أنه قد يكون قادرا على إثبات غيبته لمدة تفوق السنة مما يجعل
دعوى التطليق للشقاق التي رفعتها زوجته في مواجهته غير قائمة على أساس ، فهل يمكن
القول في مثل هذه الحال أن الغاية واحدة و هي رغبة الزوجة في التطليق و أن السبب
لا يهم في شيء أم أن سبب التطليق معتبر و له أثره ؟
الحقيقة أن إثبات الغيبة من قبل الزوج يمكن أن يكون دليلا قاطعا
على أمرين ؛ أولهما سواء نية الزوجة و ثانيهما إمكانية تحقق المحكمة من انتفاء
شروط الحكم بالمستحقات . و في هذا السياق قد يثبت الزوج أن غيابه كان اضطراريا ،
بمعنى أن إرادته في الغيبة كانت منعدمة أو شبه منعدمة ، فهل يمكن تحميله عواقب غيبته
الاضطرارية ؟
الجواب بطبيعة الحال يكمن في استعمال المحكمة لسلطتها التقديرية
لقراءة ظروف الواقع بناء على عبارة " تبت المحكمة أيضا عند الاقتضاء في مستحقات الزوجة
" أي في حالة
ثبوت شروط الاستحقاق و أما عند عدم ثبوت الاستحقاق فلا يمكن تحميل المدعى عليه تبعات
أمر وقع في غياب إرادته . و قد يسألنا أحدهم حول عدم قانونية الحكم على المدعى
عليه بالمستحقات و ما أساس ذلك ؟
إن الغيبة الاضطرارية و التي تتحقق معها غياب و انعدام الإرادة
الحرة تدخل في خانة انعدام الخطأ الذي يترتب عن تحقق القوة القاهرة أو
الحادث الفجائي ، و بالتالي لا يمكن أن يتحمل من كان ضحية هذا الحادث الفجائي أو
القوة القاهرة أية آثار . و من تمة فالمدعى عليه / الطليق الذي تحققت غيبته
الاضطرارية و من غير إرادة يمكنه أن يتحلل من المستحقات التي ادعتها الزوجة بموجب
دعواها الرامية للتطليق للشقاق .
و إذا تحقق عندنا ما ذكر فإن الدفاع عن مصالح هذا الزوج لا
يتحقق إلا بطريقة واحدة و هي الطعن في الحكم القاضي بتطليقه للشقاق سواء في الشق
المتعلق بانحلال العلاقة الزوجية أو الشق المتعلق بالمستحقات ، لكون رغبته في
التحلل من المستحقات لا يمر إلا عبر الطعن في طبيعة و أساس الدعوى الأصلية ، حتى
تنظر محكمة الاستيناف في أساس الدعوى أولا من أجل التحقق من مدى توفر شروط دعوى
التطليق للشقاق من عدمها ، و كذا من أجل الوقوف على مدى توفر شروط الحكم
بالمستحقات أم لا ؟
فإذا ثبت للمحكمة أن أساس الدعوى في المرحلة الابتدائية غير قانوني
و أن الدعوى كان عليها أن تتأسس على أساس الغيبة لا الشقاق كان من الواجب عليها
آنذاك أن تتصدى للنظر في الشق المتعلق بانحلال العلاقة الزوجية و تعيد تكييف
الدعوى و لا سبيل لها في ذلك إلا بعد الطعن في هذا الجانب . ثم على أساس إعادة
تكييفها لطبيعة الدعوى فإنها ستنظر في استحقاق أو عدم استحقاق المدعية لمستحات
التطليق.
و كما هو معلوم فإن المحكمة تملك سلطة تطبيق القانون و إعطاء
الدعوى أو النزاع التكييف القانوني السليم و لو لم يطلب الأطراف ذلك صراحة وفق
مقتضيات الفصل 3 من قانون المسطرة المدنية.
وما ينطبق على الخلط الذي يحدثه المتقاضون من خلال عرض وقائع غير
صحيحة من أجل بلوغ أهداف معينة كالتغاضي عن الغيبة من أجل الاستناد على الشقاق ،
يمكن أن يقال على التطليق للإيلاء و الهجر عندما يتم استبعاده من طرف الزوجة لتلجأ
مباشرة للشقاق .
فكما هو معلوم فإن المادة 112 من مدونة الأسرة تلزم المحكمة أن
تؤجل النظر في دعوى التطليق للإيلاء و الهجر لمدة أربعة أشهر حتى يفيء الزوج و إلا
طلقته . فمدة أربعة أشهر التي حددها المشرع من النظام العام و لا يمكن للمحكمة أن
تخالفها باعتماد مدة أقل . لذلك فإن عدم اعتماد المحكمة لهذه الشروط في حالة ثبوت
شروط الإيلاء و الهجر و الحكم بالتطليق للشقاق بالرغم من ذلك يمكن أن يكون أساسا
للطعن في المقررات القضائية القاضية بانحلال الزوجية و لا يمكن الركون إلى الفهم
الإطلاقي لما جاء بالفقرة الأولى من المادة 128 من مدونة الأسرة و سيترتب حتما على
ذلك إعادة النظر في المستحقات لعدم احترام شكليات البت في الدعوى التطليق للأيلاء
و الهجر .
إن القراءة العامة لمقتضيات الفقرة الأولى من المادة 128 من مدونة
الأسرة من غير اعتبار للجزئيات التي يفرزها واقع التطبيق من شأنها أن تهدر حقوقا
بحجة موقف المشرع من الحق في الطعن في مثل هذه المقررات القضائية ، غير أن أخذ
الحذر و الوقوف على جزئيات الوقائع من شأنها أن تثبت لنا بأن الحرمان من الحق في
الطعن لا يعدو أن يكون قاعدة عامة لابد لها من استثناءات قد لا نقف عليها في صلب
المادة نفسها و إنما يجب علينا الاستعانة بمقتضيات و أحكام أخرى ، و ما المثالين
اللذين سقناهما أعلاه إلا دليلا على صحة الاستثناء الذي يقبل إمكانية الطعن في
المقررات القضائية القاضية بانحلال العلاقة الزوجية عن طريق التطليق .
كتبها الدكتور عبد الحكيم الحكماوي
نائب أول لوكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية بالرباط
أستاذ جامعي زائر
باحث قانوني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق